علم «دولة الجنوب» يرفرف في احدى المحافظات اليمنية الجنوبية في 30 تشرين الثاني الماضي، في ذكرى الاستقلال عن الاستعمار البريطاني |
تختلط في جنوب اليمن مشاعر المظلومية بمزيج من النقمة والأمل والندم في آن.. هذا ما تحمله أفكار الجنوبيين بشكل عام وأنصار «الحراك الجنوبي» بشكل خاص، لكل من يسأل عن تاريخ هذه البقعة الجغرافية التي تحنّ إلى زمن ما قبل العام 1990، أي إلى ما قبل «الوحدة» بين الجمهورية العربية اليمنية (الشمال) وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (الجنوب).. ربما بسبب «ذلّ الماضي» الذي لا يفارقهم، يقول ناشطو وقيادات «الحراك الجنوبي» الساعي للتخلص من «سلطة صنعاء» اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالسياسة والحكم والجغرافيا، ان لا مجال للإبقاء على «الوحدة الزائفة» مع الشمال بعد كل ما مارسه نظام الرئيس اليمني المنتهية ولايته علي عبدالله صالح بحقهم، نتيجة حرب 1994.
إذاً، هو حلم «الاستقلال» و«فك الارتباط» من جديد، لا «الانفصال». وهنا، ملاحظة يشدد عليها حاملو «القضية الجنوبية» بشراسة، اذ ان «حرب المصطلحات» جزء لا يتجزأ من الحروب «الوجودية». «فمن انقلب على الوحدة التي وقعها كل من علي عبدالله صالح عن الشمال وعلي سالم البيض عن الجنوب، كان الأول، بخرقه كل ما كان من المفترض تطبيقه بين الدولتين وصولاً إلى عدم التزامه بوثيقة العهد والاتفاق برعاية الملك حسين في عمّان، وشنّه حرب 1994.. فوقع الجنوب في قبضة احتلال الشمال، وبات الهدف تحرير الجنوبيين من المحتل واسترجاعهم دولتهم، لا انفصالهم».
والآن، وقد تنحى صالح عن سدة الرئاسة بموجب توقيعه على المبادرة الخليجية التي رعاها الملك السعودي شخصياً قبل شهرين، وشدّدت علناً على «وحدة» اليمن، مغيّبة ببنودها القليلة مطلب الجنوبيين بالاستقلال، وفيما تستعدّ البلاد لانتخاب عبد ربه منصور هادي «رئيساً لكل اليمن» في شباط المقبل بمباركة خليجية واسعة، ماذا تتوقع قوى «الحراك الجنوبي» من الممسكين الجدد في السلطة؟ وأي سبلٍ عملية قد تخدم مشروع «فك الارتباط» في المدى المنظور فتنقله من حلبة التظاهرات والشعارات إلى ميدان التطبيق؟ وهل التوقيت اليمني الحالي الذي يشوبه الانفلات الأمني من جهة والتخبط السياسي من جهة أخرى، مناسب لتمرير مشروع بضخامة «استرجاع دولة الجنوب»؟ بين تحديات الداخل المحلي وأعباء الخارج الإقليمي، يقف يمنيو عدن أمام امتحانات كثيرة يبدو ان النجاح فيها مهمة غير سهلة، لكن أبرزها يبقى في توحيد الرؤى داخل الجنوب لمواجهة «الآخر»، الشمالي والاقليمي، سياسياً.
1- تحديات الداخل
لا يمكن تقييم قضية «الحراك الجنوبي» الذي يخرج بتظاهراته الغاضبة منذ تموز 2007، من خارج إطار التطورات الهائلة التي خضّت اليمن منذ عام إلى اليوم. ففيما كان الجنوبيون ينددون بممارسات نظام صالح في مناطقهم، «كنهب الأراضي والثروات واعتقال الشباب وتعذيبهم» كما يؤكدون، لم ينسحب دعمهم لتنحي الرئيس على موقفهم من المبادرة الخليجية، اذ «أتت لتحلّ خلافاً بين المتصارعين على السلطة»، كما يرى احمد الربيزي، المسؤول الاعلامي في مكتب الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي سالم البيض. «فالمبادرة جاءت لتنظيم صراع أطراف قبلية وسلفية وحزبية على السلطة، اما قضيتنا فقضية تحرير وطن محتل، ونطالب باسترداد هويتنا شعباً وأرضاً... نأسف لثورة الشباب التي قضى عليها اللقاء المشترك (المعارضة البرلمانية السابقة) والمنشقون والسلفيون». يرددّ الربيزي لـ«السفير»، ما أعلنه البيض في مؤتمر صحافي في بيروت الأسبوع الماضي أكد خلاله ان الجنوبيين «غير معنيين لا بالمبادرة ولا بما تنص عليه وتحديدا الانتخابات الرئاسية المقبلة» وان المقاطعة الجنوبية ستكون بمثابة جواب على رفض مقترحات المبادرة، على اعتبار ان الثورة لم تعترف بقضية الجنوب لا سياسيا ولا حقوقيا...
الخلاف حول الأولويات يشعّب التباينات السياسية بين السلطة في صنعاء و«الحراك» في عدن وحضرموت، رغم «التغيير» المحدود جداً الذي اوصل احزاب «المشترك» إلى الحكومة الجديدة، وعلى رأسها الحزب الاشتراكي الذي كان له الكثير في الجنوب ابان الثمانينيات قبل ان تفضي ممارساته هو ايضاً إلى حرب اهلية بين الجنوبيين في 1986. فتبوأ «الاشتراكي» بعض الوزارات بمشاركة «حزب التجمع اليمني للاصلاح» (الاخوان المسلمين) مناصفةً مع حزب المؤتمر الشعبي (حزب صالح)، لم يعنِ للجنوبيين الكثير. اذ يقول الربيزي إنه «من اللحظة الأولى التي تشكلت فيها هذه الحكومة، ذهبت لضرب الجنوبيين» في إشارة إلى قمع التظاهرات في عدن وغيرها من المحافظات الجنوبية الجمعة الماضي. ويضيف «هل حصل تغيير فعلي في اليمن؟ استبعد.. من الممكن أن يختلفوا (احزاب السلطة) بين بعضهم ويتقاتلوا في حي الحصبة وفي كل مكان، غير أنهم سيعودوا ليتفقوا ضدنا.. ولكن لدينا نفس طويل، اذ حققنا تقدماً كبيراً منذ العام 2007 ونعتمد على الأرض والجماهير كما نرحب بأي جهة تدعمنا في تحقيق مطلبنا».
يتشبث قادة «الحراك الجنوبي» بتظاهرة «30 نوفمبر» الماضي (الذكرى الـ44 لاستقلال الجنوب من الاستعمار البريطاني في 30 تشرين الثاني 1967) للتأكيد بأنها كانت بمثابة استفتاء بالنسبة للجنوب حيث خرجت أعداد كبيرة لدعم «فك الارتباط»، والقول إن القضية لم تذب في الصراع على السلطة الذي تمت تسويته بين الرياض وصنعاء. ويقول الربيزي «نراهن على جماهيرنا في الداخل بشكل كامل لمواجهة محاولات فرض حلول منقوصة كالمبادرة الخليجية التي تجاهلت قضيتنا.. اذ جعلونا فقرة في نهاية المبادرة وهذا تهميش متعمّد نرفضه تماماً».
2- الجنوب وتشتتّ الرؤى
يظهر جنوبيو اليمن متّحدين وراء شعار «لا للمبادرة» ولا «للحلول الجزئية» ليتمركزوا بالتالي خلف مطلب «فكّ الارتباط»، غير أن صيغة فكّ هذا الارتباط تبقى موضع خلاف بينهم. فبين من يشارك البيض رؤيته لـ«استقلال» الجنوب بالكامل لاسترداد «الدولة»، وبين من يؤيد طرح «لقاء القاهرة» (12 ايلول الماضي)، وتحديداً الرؤساء الجنوبيين السابقين حيدر ابو بكر العطاس وعلي ناصر محمد، والذي يقترح تطبيق الفيدرالية على أساس إقليمين، شمالي وجنوبي، لمدة خمس سنوات يليها استفتاء على الاستقلال، لا تزال القضية موضع تشتت بين المنابر المختلفة.. يقول مصدر يمني مطلع بشكل كبير على السجال الدائر بين «زعماء» الجنوب، إن «أفق التلاقي بين فريقي البيض وعلي ناصر محمد شبه معدوم.. فالأول يرى في الاستقلال تكفيراً عن ذنب اقترفه بدعوته للوحدة العام 1990، أما الثاني فلا يؤمن بحلّ الاستقلال حالياً اذ لا افق محلياً او خارجياً لتطبيقه في الوقت الحاضر». ويضيف المصدر لـ«السفير» إنه «على الأرجح ان محمد يعتقد أن البيض لا ينفكّ ينزلق من خطأ تاريخي إلى آخر.. اخطأ في الدعوة للوحدة فخسر الجنوبيون الكثير، واليوم يدعو للاستقلال وقد يخطئ بذلك ايضاً في غياب الشروط المؤاتية لتحقيق ذلك. لذا فإن الفدرلة برأي الرئيس محمد هي الحل أقله في الوقت الحاضر».
للقيادي في «الحراك الجنوبي» أحمد عمر بن فريد قراءة أخرى لمسألة التباينات التي تظلل إيجاد حلّ للجنوب اليمني. ويقول بن فريد لـ«السفير» إن الجنوبيين بعد انطلاق تحركهم في 2007 «كانوا بحاجة لدعم الشخصيات الجنوبية.. عندها أتى الرئيس البيض ودعا في العام 2009 لانضمام كل الشخصيات المعروفة في الجنوب الى هذا الحراك. لكن عندما حصلت تباينات، بقي هو على مطلب الشعب بالاستقلال كلياً عن الشمال على اعتبار أن الجنوب تحت الاحتلال منذ حرب 1994». ويضيف بن فريد «يشعر الرئيس البيض انه المسؤول عن كارثة الوحدة ويريد إصلاح ما أُفسد.. هو رجل عاطفي وصادق واعلن بصراحة انه لا يريد أي موقع في السلطة بعد استقلال الجنوب. اما لقاء القاهرة فأعتقد انه كان فيه تحايل على الناس بالحديث عن الفيدرالية خصوصاً أن لا ضمانات لتحقيق ذلك». لا يرى بن فريد، المقرّب من البيض، أن أحداً في الجوار الاقليمي او المجتمع الدولي ككل، يدعم الجنوبيين للتخلص من «سنوات الذلّ والقهر والعذاب» اذ أن «الجميع يريد حلّ المسألة الجنوبية ضمن إطار الوحدة، وتحديداً من خلال حوار وطني يدعو اليه اللقاء المشترك وتشارك فيه كل الفعاليات اليمنية لطرح كل الملفات العالقة (القضية الجنوبية، مطالب الحوثيين، الأزمة الأمنية...). لكن من نلمس منهم فعلياً، فهماً دقيقاً لما نطرحه، هم الحوثيون الذين يبدون حيال قضيتنا تعاطفاً كبيراً.. ربما لأنهم عانوا ما عانوه ايضاً من ممارسات النظام».
لا شك في أن هذه التباينات تعيد «اليمن الجنوبي» إلى ماضي السبعينيات والثمانينيات، وتثبت مرة اخرى ان النخب السياسية التي تنطق اليوم باسم «القضية الجنوبية» لم تتمكّن من التقريب بين قراءاتها السياسية رغم أعوام الحرب والنفي، كما لم تعمل على رسم صورة «القائد الواحد» الذي يمكن أن يحتاجه الجنوب لإيصال مشروعه للعالم. وربما ما كتبه الباحث اليمني عبدالله الشعيبي في هذا الصدد يعبّر خير تعبير عن «تيه» القضية، فما يحتاجه الجنوب برايه، هو « تقارب النخب السياسية التي تعاقبت على حكم الجنوب وتصالحها وتسامحها كي يكون هناك حامل للقضية مكلف بالتحدث عنها وباسمها في المحافل السياسية الوطنية والإقليمية والدولية بدلاً من الانشغال في الاختلافات السياسية والشخصية التي لا تخدم القضية». ويضيف الشعيبي «الحقيقة التي قادت الى تراجع الحراك الجنوبي السلمي مع بزوغ الربيع العربي بالذات هي غياب قيادة شابة منتخبة أو متوافق عليها ليست لها علاقة بالتاريخ السابق لا من قريب ولا من بعيد، لتمثيل الجنوبيين. سبب التراجع هو النخب السياسية التي شاخت وهرمت وهي ترفض التنازل عن دورها وأبويتها الفاشلة للجنوب وطناً وشعباً».
3- السعودية و«تجاهل» الجنوب
ومن تحديات الداخل الجنوبي بشكل خاص والداخل اليمني بشكل عام، يصطدم الجنوبيون بغياب الغطاء الإقليمي والدولي الذي قد يضغط باتجاه ترجمة فعلية لمطلب «فك الارتباط».
لا يغيب عن بال الجنوبيين «تقديم نظام علي عبدالله صالح 100 ألف كلم2 من أراضي الجنوب اليمني للسعودية في إطار اتفاقية الحدود العام 2000»، كما يقول الناشط في «الحراك» حسين زيد بن يحيى، الذي يقدّم نفسه بصفته «خرّيج سجون الاحتلال اليمني» والذي شارك في «لقاء القاهرة» كمراقب. ويضيف بن يحيى «بغياب الدعم الخليجي والدولي لقضيتنا، سنواصل النضال السلمي حتى آخر رمق، إلا أننا لن نستبعد اللجوء للخيار المسلّح في حال واصلوا تجاهل معاناتنا».
موقف الجنوبيين الحالي من أداء السعودية يتناقض مع العلاقة التي قامت بين الجانبين في التسعينيات وفي العام 1994 تحديداً. اذ يروي بن فريد أن «السعودية وقفت معنا عندما شنّ صالح الحرب علينا، ربما لانها كانت مقتنعة بذلك او لانها ارادت كما الكويت أن ترّد لصالح الصّاع صاعين لوقوفه الى جانب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خلال غزوه الكويت... ومع ذلك لم تستطع السعودية التخلص من صالح، خصوصاً انه حقّق للرياض ولواشنطن كل ما حلما به». ويضيف بن فريد «الموقف الخليجي الحالي مؤسف تماماً بالنسبة لنا، لأن الكل داس على حقنا.. أستغرب كيف يرى السعوديون أن في الوحدة مصلحة لهم. على ماذا يراهن الملك السعودي بدعوته للمبادرة الخليجية، عندما يكون الشمال الحوثي وكل الجنوب ضد السلطة؟ هل يراهن على قلة في الوسط؟».
لا ينفك الجنوبيون ينادون الرياض وكل «الأشقاء» الخليجيين لمساندتهم، ربما لانهم يدركون اهمية الدور السعودي وحجمه الكبير على مستوى اليمن ككل، فضلاً عن دعوتهم لـ«تصحيح» النظرة الخليجية لجنوب اليمن. فعتب قيادات «الحراك» على التعتيم الإعلامي الذي يطال شبابهم كبير، خصوصاً إذا أتى من قناة «الجزيرة» القطرية التي «نقلت تظاهرات الجنوبيين يوم الجمعة الماضي على انها احتجاجات ضد نظام علي عبدالله صالح.. حاولوا بذلك تزوير فعالياتنا»، كما قال قيادي في «الحراك»...
قد يكون للسعودية دور في مصير الجنوب بحسب المحلل اليمني محمد سقاف الكاف، الذي قال لـ«السفير» إنه من الممكن «أن يتم الانفصال بخطوات الفيدرالية ومن ثم الاستفتاء على فك الارتباط، كما من الأفضل أن يكون ذلك برعاية عربية ودولية.. اما المملكة فقد لا يعنيها انفصال اليمن إلى إقليمين أو أكثر لأنها تعاملت مع دولتين في السابق (الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية) بقدر ما يهمها استقرار حدودها الجنوبية وإمكانية تصدير نفطها عن طريق بحر مفتوح (بحر العرب) بعيداً عن المضائق التي أصبحت في الوقت الراهن نقاط تأزم والتهاب (مضيق هرمز الذي تسيطر عليه إيران ومضيق باب المندب المهدّد ملاحياً)». ويضيف الكاف «من الأنسب لها استقرار دولة على بحر العرب يقلل تكاليف نقل النفط عبر المضائق ويرفع عنها تهديدات تلك المواقع مستقبلاً، وأسوة بها دول مجلس التعاون الأخرى وكذلك العراق».
صرخات جنوبيي اليمن تتخطى الكيلومترات الجغرافية الفاصلة بين صنعاء وعدن، كما لا تنبع من منطق عنصري ضد يمنيي الشمال، بل تنطلق من ممارسات سياسية - اجتماعية مضى عليها عقود، وافلحت في تشويه شعور المواطنة على مستوى «اليمن الكبير».
نقلا عن السفير