مروان الغفوري
سأستعير من الكواكبي وباسندوة الصرخة في الواد، التي إن ذهبت مع الريح فستذهب غداً بالأوتاد.
قبل أيام، أيضاً، رحل عن الدنيا المبدع العربي الكبير إبراهيم أصلان. كان أصلان في بداية الألفية الثالثة قد عاش تحت حصار رهيب من الخوف لأنه تجرأ ونشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر. كانت الرواية قد نشرت في سوريا سنة 1983، ولم تغير عقيدة المجتمع السوري، كما لم يأبه لها أحد.
في تعز قال الشيخ عبد الرحمن قحطان للحشد الغاضب: سحقاًَ للثورة، سحقاً للدولة المدنية الحديثة إذا كانت ستؤدي إلى الاعتداء على الذات الإلهية. قال المعنى نفسه بالعامية التعزّية. وكانت الدماء تغلي في النحور: لا بد أن ننتصر لشرع الله. بالنسبة لإبراهيم أصلان فلم يصب بأذى لأن أهل حارته في حي إمبابة وفروا له حماية بل استقبلوه بنشوة وهم يهتفون: ولعتها يا برنس، كما يروي عزت القمحاوي. لكن: من سيحمي بشرى المقطري في الحي الذي تأوي إليه؟
قبل عشرة أعوام كتب د.محمد عباس، الإسلامي المتهوّر، في الصفحة الأخيرة من صحيفة الشعب المصرية عناوين على شاكلة: صراعنا مع دويلة الكفر، من يبايعني على الموت. كان ذلك على هامش رواية الوليمة. لذلك شعر المثقفون، والمسؤولون المصريون، أن حياة إبراهيم أصلان أصبحت في خطر.
تماماً مثلما هي حياة بشرى المقطري الآن في خطر جسيم. إذ في لحظة ما تجرّأ شاب عاطل على تسديد سكين حاد إلى رقبة أستاذ الرواية العربية نجيب محفوظ، وهو لا يعلم عن دوافع صنيعه ذلك سوى أنه يقدم خدمة للإله. وربما لم يكن يعرف ما معنى أن يكون المرء نجيب محفوظ. لغز تراجيدي شبيه بتلك الطعنات التي وجهها مجهول إلى صدر أشهر شعراء القرن العشرين: لوركا.
قحطان يحرّض صراحة على دم بشرى المقطري، وربما فيما على بعد على دمي وبقية الدماء التي تقول شيئاً ما لا يراه قحطان متطابقاً تطابق الحافر على الحافر مع صريح الاعتقاد وجوهر هذا الدين.
كان نجيب محفوظ قد تعرض لمحاولة اغتيال في العام 1994 على يد شاب يتبع الجماعة الإسلامية. لكن هذه الجماعة عادت بعد 12 عاماً، وأصدرت بياناً قالت فيه إننا نتبنى الآن موقفاً من أهل الفكر والرأي، وإن القلم لا يواجه إلا بالقلم، والرأي لا يواجه إلا بالرأي والفكر، وإن مواجهة القلم بالرصاص تضر بالإسلام والمسلمين وأوطانهم أكثر مما تنفعهم. صدر هذا البيان في العام 2006. وهو العام نفسه الذي أوفد فيه مكتب الإرشاد، بتوجيه من محمد مهدي عاكف، طاقماً رفيعاً بقيادة عبد المنعم أبو الفتوح لتهنئة نجيب محفوظ بعيد ميلاده الـرابع والتسعين. قال أبو الفتوح لمحفوظ، كما نقلت «أخبار الأدب» في حينه، إن الإخوان يعتقدون أن روايات نجيب محفوظ كانت سبباً مباشراً في فوزهم في الانتخابات النيابية، لأنها خلقت مزاجاً وسطياً معتدلاً ونقدياً مكّن المصريين من أن يختاروا بين البرامج ويميلوا للإخوان المسلمين باعتبارهم الطريق الوسط. قال أبو الفتوح المعنى نفسه، بالضبط.
عندما يبلغ نجيب اليافعي، أو سمير جبران، الخمسين من العمر سيوفدهما حزب الإصلاح إلى مكتب بشرى المقطري لكي يعتذرا عن مواقف شيوخه الراحلين قبل عشرين عاماً. لكن لماذا على الإصلاح أن يتأخر عشرين عاماً لكي يفهم مثل هذه الوقائع؟ ولماذا لا يذهب الشابان الآن وليس على مشارف الخمسين؟ لماذا لا يعتذر الحزب لها الآن عن تهديد حياتها للخطر؟ قحطان وعبد الله أحمد علي هم من شيوخ الصف الأول في حزب الإصلاح ويستطيع القادة السياسيون أن يبلغوهم بخطورة تحريض الجماهير في الشارع ضد كتاب أو كاتب. لأن من شأن هذا التصريح أن يهدد حياة الناس ويعرض وجودهم لخطر جسيم. هذه معادلات ليست صعبة الفهم، لكنها خطرة النتائج على نحو لا يمكن تخيله.
يعرّف الإرهاب معجمياً بأنه: استخدام العنف أو السلاح أو التلويح باستخدامهما لتحقيق أغراض دينية أو سياسية أو إثنية. في الحشد الذي جمعه الشيوخ في تعز كان الإرهاب حاضراً كما تقول المعاجم. ولم يكن المرء بحاجة للبحث عن تعريفات أخرى. فلا يوجد أبلغ من جملة «ما لا تحمد عقباه» للتعبير عن نية جماعة معينة لتصفية الموقف برمته مع طرف آخر خارج القوانين ومرجعيات العدالة المتعارف عليها.
فإذا كان النبي يقول، كما عند أحمد والطبراني، اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل.. فإن الإرهاب قد يكون أكثر خفية من دبيب النمل. على أن الإرهاب الذي ساقه الخطاب الأخير للشيخ عبد الرحمن قحطان كان أوضح من دبيب الفيلة.
الشريعة، حتى وإن كانت تعني الطريق إلى الماء كما في «لسان العرب»، إلا أنها أيضاً تعني القوانين والانضباط والضوابط واللوائح المستمدة من «القرآن، السنة، الإجماع، القياس، الاستحسان، الاستصحاب، عمل أهل المدينة، المصالح المرسلة، شرع من قبلنا ... إلخ».
حتى هذا التراتب للتشريع فقد تعرض لتعديل جوهري، إذ تصبح «المصالح المرسلة» عند المستوى نفسه من النص. لذلك أبدع الفقهاء جملة «حيثما تكون مصالح العباد فثمّ شرع الله». ووصل الحد بفقيه مرموق في القرن السابع الهجري إلى القول بتقديم مصلحة العباد على النص في حال تعارضهما.
ثمة ما هو أكثر بشاعة. فعلى مدى نصف قرن من الزمن اعتقد ملايين الشباب في العالم الإسلامي أن رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ هي رواية مليئة بالشرك بل والكفر. رغم أن نجيب محفوظ التزم لجمال عبد الناصر في مطلع الستينات بأنه لن يعيد نشرها، عقب تحمس هيكل لذلك ونشرها في صحيفة الأهرام. أي: لم يقرأها أحد، لكن الجميع كانوا متأكدين بلا درجة شك من أنها رواية مليئة بالكفر. ولا يدري أحد على جهة اليقين كيف عرف كل هؤلاء البشر الذين لم يروا الرواية المختفية منذ نصف قرن أنها «رواية كافرة».
مما سبق ..
سيصبح أي قول أو فعل - قد يفهم باعتباره كفراً - موضوعاً للجدل. هكذا في الدولة الحديثة التي يقول لها قحطان: سحقاً. أي: موضوعاً للجدل القانوني وليس للتحشيد الجماهيري. وبحسب القاعدة القانونية الأخلاقية: كل متهم بريء حتى تثبت إدانته. وبلا ضوضاء تتحرك القوانين وترى ما ينبغي عليها فعله.
على أن هذه القوانين لا بد أن تعرض ابتداءً على الناس ليتفقوا عليها. بحيث تكون قوانين قابلة للفهم الراهن ومتساوقة مع الأخلاق المعاصرة. وفوق كل هذا أن تكون معززةً للمناخ الديموقراطي لا متناقضة معه. ما لم يكن الأمر كذلك، فسيكون لمقولة «لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية» موطئ قدم.
للنظام مقدساته، وللجماهير مقدساتها. في المشهد الأخير سنتساءل على طريقة محرر «اللوموند» الفرنسية: لن نجد بعد الآن شيئاً نجرؤ على كتابته. وكان جون ستيوارت ميل، الانجليزي الأشهر، يقول في كتابه «الحرية» إنه من حق أي شخص أن يقول إن الاحتكار ظلم. لكنه سيصبح داعية شغب إذا قال الأمر نفسه لأناس غاضبين ومحتشدين أمام متجر. وهو ما فعله، بالضبط، الشيخ عبد الرحمن قحطان.
أن يخرج عشرة آلاف شخص إلى الشارع معلنين إنهم سيكونون جنود الله يعني إشهاراً لأكبر محكمة تفتيش في التاريخ. إذ ما الذي كانت تفعله محاكم التفتيش سوى أنها تشنق الناس الذين «يهرطقون».. وهي التهمة نفسها التي رفعت هذا النهار في مدينة النور «تعز»: يهرطقون.
إن كلمة جندي تعني: الرجل الذي لم يفكر بعد بإلقاء السلاح أو إزالة المتاريس. يحدث هذا في غياب تام لسلطة فوقية مفوضة، وتحويل كل فرد إلى متراس ودار عليا للقضاء. يعرف هذا المشهد في الأدبيات السياسية والاجتماعية بـ «الكاوس» أو السديم. أي الفوضى العارمة. المذهل هو أن رجالات وأبطال هذه الفوضى يصرّون على الاعتقاد بأن هذا الأمر هو بالضبط ما يريده الإله. في حياتي لم أرَ إهانة للمقدس مثل هذه الإهانة.
قبل خمسة أعوام تلا الشاعر علي دهيس نصه العميق: الله والله الآخر. وكنا نرى ذلك الله الآخر، الذي يقصده دهيس. لكنه لم يكن قد تجلى على الدخان مثل ما نراه الآن. لم يكن يكفر، أعني دهيس، كان فقط يدعونا على طريقته إلى رؤية الله الحقيقي. وكان الغزالي، رحمه الله، يحذر من هذا الله الآخر فيقول: داخل كل إنسان رب نائم، فلا تطلقوا سراحه. نحواً من هذا المعنى قال المعلم الكبير محمد الغزالي. مرة أخرى: دهيس لم يكفر بالله في تلك الساعة. كان فقط يريد أن يقول أن هناك رباً واحداً حقيقياً، وهناك صور لا نهائية لهذا الرب والإله في عقول لا نهائية. ففي مرة كتب جمال سلطان، المفكر الإسلامي المعروف، مقالاً ذكر فيه أنه سأل عشرين شاباً من شباب «الصحوة الإسلامية» عن تصورهم للخلافة الإسلامية المنشودة. يقول إنه سمع في جلسة قصيرة عشرين تصوراً ليس فقط مختلفاً بل متناقضاً لفكرة دولة الخلافة الإسلامية. في التصور الكلي للإسلام، حتى لدى الأفراد العضويين في التنظيمات الإسلامية، لا يوجد تصور متجانس للإسلام بل تسكن داخل كل تصور حزمة مستطيرة من التصورات المتناقضة. عندما أقول «الإسلام» فأنا أتحدث عن عمدانه الأربعة: العقائد، العبادات، المعاملات، الأخلاق. وداخل كل عمود توجد بحيرة عظيمة لا حدود لها. لذا كان الرسول يهمس في أصحابه: إن هذا الدين شديد فأوغلوا فيه برفق. لكننا نشاهد ظواهر مذهلة: ثمة من يعتقد أنه بمجرد قراءة دستة كتيبات صغيرة فإنه أصبح ملماً بآفاق هذا الدين. وهكذا يخرجون إلى الشوارع وقد ارتدوا بزّات رجال الله وحراس الشريعة. وهم يهينون دينهم بطريقة تدعو للحيرة والإحباط.
فكرة جنود الله تحوّل الله إلى شيخ قبيلة، على طريقة زعماء القبائل الجوالين في الصين القديم، لا يمكنه العيش إلا خلف أحزمة ناسفة وطبقات من الجند اليقظين. هذه أيضاً إهانة بالغة للمقدس الأسمى. لا يمكنني تصور قبولها، وهي أولى الأشياء بالإدانة. في الأثر أن الله قال لعابد من بني إسرائيل: ماذا فعلت في سبيلي؟ قال له العابد: قتلت في سبيلك ألف كافر. فغضب الله وقال له: أو ليسوا عبادي؟
حتى الكفّار، لا يملك أحد الحق في أن يحاربهم. ما لم يكونوا محاربين. هنا يأتي موضوع جهاد الدفع عند الفقهاء. وهو ذلك الجهاد الذي تشترك فيه كل الأمم، والمنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في حين يبدو الشكل الآخر من الجهاد، وهو جهاد الطلب، موقفاً أخلاقياً متطوّراً. إذ ينطلق جهاد الطلب في الإسلام لأجل تحقيق مبدأ «لا إكراه في الدين». في كتابه الشهير«الظلال» شرح سيد قطب هذا المبدأ، وفصّله في صفحات طويلة في مقدمة سورة الأنفال، لكي يقول إن الجهاد لم يكن لأجل إدخال الناس في الإسلام بل لإزالة العوائق، الاجتماعية والسياسية والعسكرية، التي تمنع الناس من الاختيار الحر بين الإسلام وغيره.
لكن..
لن يكون بمقدورنا منع قحطان أو الزنداني أو عبد الله أحمد علي (الألقاب محفوظة) من الخروج ومخاطبة الجماهير على طريقة: سحقاً للدولة المدنية إذا كانت ستسمح بإهانة الذات الإلهية. فقط مطلوب من وزارة الداخلية أن تلزم هؤلاء القادة الجماهيريين بكتابة إقرار خطي يقولون فيه صراحة: إننا نعلن مسؤوليتنا الكاملة عن أي مخاطر يتعرض لها وجود أو حياة «سين أو صاد» من قبل الجماهير، أو أي فرد سائب من الناس عقب خطابنا الذي سنلقيه.
ففي لحظة من التاريخ دخل رجل ضال، اقتنع بعمق أن الخليفة عثمان بن عفان رجل ضال، إلى دار عثمان. سمع راوياً كاذباً يقول له: سمعت عائشة تخطب حول الكعبة: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، وكانت تقصد عثمان. طعن الخليفة، ذا النورين، ست طعنات، ثم توقف وأخذ نفساً عميقاً: هذه لله. ثم زاد أربعاً: وهذه لحاجة في نفسي.
أرجوكم، توقفوا عن طعننا لله. فما كان لله فهو يصل إلى شركائكم. وما كان لشركائكم فلا يصل إلى الله.
وهذا واحدٌ من وجوه الحقيقة اللانهائية.
«إنها صرخة في واد، أو نفخة في رماد. إن ذهبت مع الريح فستذهب غداً بالأوتاد». هكذا دشّن عبد الرحمن الكواكبي (ت. 1902) كتابه الشهير: طبائع الاستبداد. اقتبس باسندوة هذه الجملة في خطابه أمام البرلمان، بينما كان خياله يسرح في الممكن المخيف.
سأستعير من الكواكبي وباسندوة الصرخة في الواد، التي إن ذهبت مع الريح فستذهب غداً بالأوتاد.
قبل يومين فقط، في تعز تحديداً .. الآلاف يثورون ضد الاعتداء على المقدسات والثوابت الدينية. هكذا ورد الخبر: اعتبر المشاركون أنفسهم جنوداً للدفاع عن الثوابت الدينية. كما هددوا أنه في حال لم يتدخل الرئيس بالإنابة لإيقاف المعتدين على المقدسات عند حدهم فقد يحدث ما لا تحمد عقباه.
قبل أيام، أيضاً، رحل عن الدنيا المبدع العربي الكبير إبراهيم أصلان. كان أصلان في بداية الألفية الثالثة قد عاش تحت حصار رهيب من الخوف لأنه تجرأ ونشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر. كانت الرواية قد نشرت في سوريا سنة 1983، ولم تغير عقيدة المجتمع السوري، كما لم يأبه لها أحد.
في تعز قال الشيخ عبد الرحمن قحطان للحشد الغاضب: سحقاًَ للثورة، سحقاً للدولة المدنية الحديثة إذا كانت ستؤدي إلى الاعتداء على الذات الإلهية. قال المعنى نفسه بالعامية التعزّية. وكانت الدماء تغلي في النحور: لا بد أن ننتصر لشرع الله. بالنسبة لإبراهيم أصلان فلم يصب بأذى لأن أهل حارته في حي إمبابة وفروا له حماية بل استقبلوه بنشوة وهم يهتفون: ولعتها يا برنس، كما يروي عزت القمحاوي. لكن: من سيحمي بشرى المقطري في الحي الذي تأوي إليه؟
قبل عشرة أعوام كتب د.محمد عباس، الإسلامي المتهوّر، في الصفحة الأخيرة من صحيفة الشعب المصرية عناوين على شاكلة: صراعنا مع دويلة الكفر، من يبايعني على الموت. كان ذلك على هامش رواية الوليمة. لذلك شعر المثقفون، والمسؤولون المصريون، أن حياة إبراهيم أصلان أصبحت في خطر.
تماماً مثلما هي حياة بشرى المقطري الآن في خطر جسيم. إذ في لحظة ما تجرّأ شاب عاطل على تسديد سكين حاد إلى رقبة أستاذ الرواية العربية نجيب محفوظ، وهو لا يعلم عن دوافع صنيعه ذلك سوى أنه يقدم خدمة للإله. وربما لم يكن يعرف ما معنى أن يكون المرء نجيب محفوظ. لغز تراجيدي شبيه بتلك الطعنات التي وجهها مجهول إلى صدر أشهر شعراء القرن العشرين: لوركا.
قحطان يحرّض صراحة على دم بشرى المقطري، وربما فيما على بعد على دمي وبقية الدماء التي تقول شيئاً ما لا يراه قحطان متطابقاً تطابق الحافر على الحافر مع صريح الاعتقاد وجوهر هذا الدين.
كان نجيب محفوظ قد تعرض لمحاولة اغتيال في العام 1994 على يد شاب يتبع الجماعة الإسلامية. لكن هذه الجماعة عادت بعد 12 عاماً، وأصدرت بياناً قالت فيه إننا نتبنى الآن موقفاً من أهل الفكر والرأي، وإن القلم لا يواجه إلا بالقلم، والرأي لا يواجه إلا بالرأي والفكر، وإن مواجهة القلم بالرصاص تضر بالإسلام والمسلمين وأوطانهم أكثر مما تنفعهم. صدر هذا البيان في العام 2006. وهو العام نفسه الذي أوفد فيه مكتب الإرشاد، بتوجيه من محمد مهدي عاكف، طاقماً رفيعاً بقيادة عبد المنعم أبو الفتوح لتهنئة نجيب محفوظ بعيد ميلاده الـرابع والتسعين. قال أبو الفتوح لمحفوظ، كما نقلت «أخبار الأدب» في حينه، إن الإخوان يعتقدون أن روايات نجيب محفوظ كانت سبباً مباشراً في فوزهم في الانتخابات النيابية، لأنها خلقت مزاجاً وسطياً معتدلاً ونقدياً مكّن المصريين من أن يختاروا بين البرامج ويميلوا للإخوان المسلمين باعتبارهم الطريق الوسط. قال أبو الفتوح المعنى نفسه، بالضبط.
عندما يبلغ نجيب اليافعي، أو سمير جبران، الخمسين من العمر سيوفدهما حزب الإصلاح إلى مكتب بشرى المقطري لكي يعتذرا عن مواقف شيوخه الراحلين قبل عشرين عاماً. لكن لماذا على الإصلاح أن يتأخر عشرين عاماً لكي يفهم مثل هذه الوقائع؟ ولماذا لا يذهب الشابان الآن وليس على مشارف الخمسين؟ لماذا لا يعتذر الحزب لها الآن عن تهديد حياتها للخطر؟ قحطان وعبد الله أحمد علي هم من شيوخ الصف الأول في حزب الإصلاح ويستطيع القادة السياسيون أن يبلغوهم بخطورة تحريض الجماهير في الشارع ضد كتاب أو كاتب. لأن من شأن هذا التصريح أن يهدد حياة الناس ويعرض وجودهم لخطر جسيم. هذه معادلات ليست صعبة الفهم، لكنها خطرة النتائج على نحو لا يمكن تخيله.
يعرّف الإرهاب معجمياً بأنه: استخدام العنف أو السلاح أو التلويح باستخدامهما لتحقيق أغراض دينية أو سياسية أو إثنية. في الحشد الذي جمعه الشيوخ في تعز كان الإرهاب حاضراً كما تقول المعاجم. ولم يكن المرء بحاجة للبحث عن تعريفات أخرى. فلا يوجد أبلغ من جملة «ما لا تحمد عقباه» للتعبير عن نية جماعة معينة لتصفية الموقف برمته مع طرف آخر خارج القوانين ومرجعيات العدالة المتعارف عليها.
فإذا كان النبي يقول، كما عند أحمد والطبراني، اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل.. فإن الإرهاب قد يكون أكثر خفية من دبيب النمل. على أن الإرهاب الذي ساقه الخطاب الأخير للشيخ عبد الرحمن قحطان كان أوضح من دبيب الفيلة.
الإسلام دين نظامٍ وقوانين ولوائح. يقول «حراس الشريعة» إن الإسلام أيضاً دين شريعة. حتى وهم لا يفهمون الفرق بين الفقه والشريعة. استخدم في المهرجان الأخير مصطلح «حراس الشريعة». وكان «أنصار الشريعة» يقومون بأفعال، تختلف في الدرجة لا في النوع، في رداع. ولا يبدو أن التقاء العناوين مجرد مصادفة.
الشريعة، حتى وإن كانت تعني الطريق إلى الماء كما في «لسان العرب»، إلا أنها أيضاً تعني القوانين والانضباط والضوابط واللوائح المستمدة من «القرآن، السنة، الإجماع، القياس، الاستحسان، الاستصحاب، عمل أهل المدينة، المصالح المرسلة، شرع من قبلنا ... إلخ».
حتى هذا التراتب للتشريع فقد تعرض لتعديل جوهري، إذ تصبح «المصالح المرسلة» عند المستوى نفسه من النص. لذلك أبدع الفقهاء جملة «حيثما تكون مصالح العباد فثمّ شرع الله». ووصل الحد بفقيه مرموق في القرن السابع الهجري إلى القول بتقديم مصلحة العباد على النص في حال تعارضهما.
ومصالح العباد تتحقق حين يفوض الجميع سلطاتهم إلى سلطة فوقية واحدة لها الحق الحصري في استخدام «القهر» وفقاً للقانون. وكذلك في التلويح به. لا يمكن تخيل دولة متّسقة مع ذاتها، مجتمعاً حضارياً متماسكاً، في حين تخرج طوابير من البشر إلى الشارع لكي تهدد بما لا تحمد عقباه لأن كاتباً نشر نصّاً في صحيفة. وفي طليعتها يوجد شيوخ يضرمون النار في هشيم الفكر، فتسقط الحدود. عندما تسقط الحدود يكون لمصطلح «الجندية» تعريف حقيقي. وبالطبع، لا يوجد مواطنون في تلك اللحظة، وذلك المكان. فقط: جنود وأعداء وأسرى ينصبون المتاريس، بتعبير فؤاد حجازي. إنها حرب، لا يوجد معنى آخر.
ثمة ما هو أكثر بشاعة. فعلى مدى نصف قرن من الزمن اعتقد ملايين الشباب في العالم الإسلامي أن رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ هي رواية مليئة بالشرك بل والكفر. رغم أن نجيب محفوظ التزم لجمال عبد الناصر في مطلع الستينات بأنه لن يعيد نشرها، عقب تحمس هيكل لذلك ونشرها في صحيفة الأهرام. أي: لم يقرأها أحد، لكن الجميع كانوا متأكدين بلا درجة شك من أنها رواية مليئة بالكفر. ولا يدري أحد على جهة اليقين كيف عرف كل هؤلاء البشر الذين لم يروا الرواية المختفية منذ نصف قرن أنها «رواية كافرة».
بعد أربعين عاماً جاء المفكر الإسلامي د.أحمد كمال أبو المجد، والمفكر الإسلامي د.محمد سليم العوا وكتبا مقدمتين منفصلتين للرواية، فيما يشبه دور المحلل، فتشجعت «دار الشروق» ونشرتها لأول مرة. وها هي الرواية تباع على الأرصفة، يقرأها المؤمنون الجدد، والمؤمنون القدامى، بخشوع عظيم. لم تضر أحداً ولم يعد من أحد يعتقد أنها «الرواية الكافرة» رغم أن سطراً واحداً من نصها الأصلي لم يحذف.
كان الإمام محمد عبده (ت. 1905) يقول: إذا كان الكلام يحتمل الكفر من 99 وجهاً وغير الكفر من وجه واحد حمل على الوجه الذي لا يحتمل الكفر. بهذا عمل الغزالي عندما ترأس، 1963، لجنة للنظر في رواية أولاد حارتنا (1959) بتوجيه من جمال عبد الناصر. ولا يزال محمد عمارة يؤكد على هذا المبدأ بحماس منقطع النظير. إذ ليس من المنطقي، يعتقد عمارة، أن نخيّر الناس بين الكفر والنفاق: إذا نطق فهو كافر، وإن كتم ما يريد النطق به فهو منافق! هناك طريق ثالث، بكل تأكيد. بل عشرات الطرق. لا يمكنني تصور ولا فهم فرح فريق من الناس وهم يسوقون الآخرين إلى النار.
مما سبق ..
سيصبح أي قول أو فعل - قد يفهم باعتباره كفراً - موضوعاً للجدل. هكذا في الدولة الحديثة التي يقول لها قحطان: سحقاً. أي: موضوعاً للجدل القانوني وليس للتحشيد الجماهيري. وبحسب القاعدة القانونية الأخلاقية: كل متهم بريء حتى تثبت إدانته. وبلا ضوضاء تتحرك القوانين وترى ما ينبغي عليها فعله.
على أن هذه القوانين لا بد أن تعرض ابتداءً على الناس ليتفقوا عليها. بحيث تكون قوانين قابلة للفهم الراهن ومتساوقة مع الأخلاق المعاصرة. وفوق كل هذا أن تكون معززةً للمناخ الديموقراطي لا متناقضة معه. ما لم يكن الأمر كذلك، فسيكون لمقولة «لا ديموقراطية لأعداء الديموقراطية» موطئ قدم.
لكي لا تعني الثورة: القضاء على طغيان النظام واستبداله بطغيان الجماهير، من الضروري أن لا تتحول الجماهير إلى جنود لله، ولا للشيطان. قمنا بالثورة على فكرة المواطنة المتساوية. أي تلك التي لا تمنح مواطناً الحق في أن يصدر حكماً في موطن آخر. إذ يناط بالدولة الدستورية الأمر برمته بحيث تصبح الحركة خارجها عملاً غير أخلاقي وغير شرعي ويعرض حياة الناس للخطر.
للنظام مقدساته، وللجماهير مقدساتها. في المشهد الأخير سنتساءل على طريقة محرر «اللوموند» الفرنسية: لن نجد بعد الآن شيئاً نجرؤ على كتابته. وكان جون ستيوارت ميل، الانجليزي الأشهر، يقول في كتابه «الحرية» إنه من حق أي شخص أن يقول إن الاحتكار ظلم. لكنه سيصبح داعية شغب إذا قال الأمر نفسه لأناس غاضبين ومحتشدين أمام متجر. وهو ما فعله، بالضبط، الشيخ عبد الرحمن قحطان.
أن يخرج عشرة آلاف شخص إلى الشارع معلنين إنهم سيكونون جنود الله يعني إشهاراً لأكبر محكمة تفتيش في التاريخ. إذ ما الذي كانت تفعله محاكم التفتيش سوى أنها تشنق الناس الذين «يهرطقون».. وهي التهمة نفسها التي رفعت هذا النهار في مدينة النور «تعز»: يهرطقون.
إن كلمة جندي تعني: الرجل الذي لم يفكر بعد بإلقاء السلاح أو إزالة المتاريس. يحدث هذا في غياب تام لسلطة فوقية مفوضة، وتحويل كل فرد إلى متراس ودار عليا للقضاء. يعرف هذا المشهد في الأدبيات السياسية والاجتماعية بـ «الكاوس» أو السديم. أي الفوضى العارمة. المذهل هو أن رجالات وأبطال هذه الفوضى يصرّون على الاعتقاد بأن هذا الأمر هو بالضبط ما يريده الإله. في حياتي لم أرَ إهانة للمقدس مثل هذه الإهانة.
قبل خمسة أعوام تلا الشاعر علي دهيس نصه العميق: الله والله الآخر. وكنا نرى ذلك الله الآخر، الذي يقصده دهيس. لكنه لم يكن قد تجلى على الدخان مثل ما نراه الآن. لم يكن يكفر، أعني دهيس، كان فقط يدعونا على طريقته إلى رؤية الله الحقيقي. وكان الغزالي، رحمه الله، يحذر من هذا الله الآخر فيقول: داخل كل إنسان رب نائم، فلا تطلقوا سراحه. نحواً من هذا المعنى قال المعلم الكبير محمد الغزالي. مرة أخرى: دهيس لم يكفر بالله في تلك الساعة. كان فقط يريد أن يقول أن هناك رباً واحداً حقيقياً، وهناك صور لا نهائية لهذا الرب والإله في عقول لا نهائية. ففي مرة كتب جمال سلطان، المفكر الإسلامي المعروف، مقالاً ذكر فيه أنه سأل عشرين شاباً من شباب «الصحوة الإسلامية» عن تصورهم للخلافة الإسلامية المنشودة. يقول إنه سمع في جلسة قصيرة عشرين تصوراً ليس فقط مختلفاً بل متناقضاً لفكرة دولة الخلافة الإسلامية. في التصور الكلي للإسلام، حتى لدى الأفراد العضويين في التنظيمات الإسلامية، لا يوجد تصور متجانس للإسلام بل تسكن داخل كل تصور حزمة مستطيرة من التصورات المتناقضة. عندما أقول «الإسلام» فأنا أتحدث عن عمدانه الأربعة: العقائد، العبادات، المعاملات، الأخلاق. وداخل كل عمود توجد بحيرة عظيمة لا حدود لها. لذا كان الرسول يهمس في أصحابه: إن هذا الدين شديد فأوغلوا فيه برفق. لكننا نشاهد ظواهر مذهلة: ثمة من يعتقد أنه بمجرد قراءة دستة كتيبات صغيرة فإنه أصبح ملماً بآفاق هذا الدين. وهكذا يخرجون إلى الشوارع وقد ارتدوا بزّات رجال الله وحراس الشريعة. وهم يهينون دينهم بطريقة تدعو للحيرة والإحباط.
فكرة جنود الله تحوّل الله إلى شيخ قبيلة، على طريقة زعماء القبائل الجوالين في الصين القديم، لا يمكنه العيش إلا خلف أحزمة ناسفة وطبقات من الجند اليقظين. هذه أيضاً إهانة بالغة للمقدس الأسمى. لا يمكنني تصور قبولها، وهي أولى الأشياء بالإدانة. في الأثر أن الله قال لعابد من بني إسرائيل: ماذا فعلت في سبيلي؟ قال له العابد: قتلت في سبيلك ألف كافر. فغضب الله وقال له: أو ليسوا عبادي؟
حتى الكفّار، لا يملك أحد الحق في أن يحاربهم. ما لم يكونوا محاربين. هنا يأتي موضوع جهاد الدفع عند الفقهاء. وهو ذلك الجهاد الذي تشترك فيه كل الأمم، والمنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. في حين يبدو الشكل الآخر من الجهاد، وهو جهاد الطلب، موقفاً أخلاقياً متطوّراً. إذ ينطلق جهاد الطلب في الإسلام لأجل تحقيق مبدأ «لا إكراه في الدين». في كتابه الشهير«الظلال» شرح سيد قطب هذا المبدأ، وفصّله في صفحات طويلة في مقدمة سورة الأنفال، لكي يقول إن الجهاد لم يكن لأجل إدخال الناس في الإسلام بل لإزالة العوائق، الاجتماعية والسياسية والعسكرية، التي تمنع الناس من الاختيار الحر بين الإسلام وغيره.
لكن..
لن يكون بمقدورنا منع قحطان أو الزنداني أو عبد الله أحمد علي (الألقاب محفوظة) من الخروج ومخاطبة الجماهير على طريقة: سحقاً للدولة المدنية إذا كانت ستسمح بإهانة الذات الإلهية. فقط مطلوب من وزارة الداخلية أن تلزم هؤلاء القادة الجماهيريين بكتابة إقرار خطي يقولون فيه صراحة: إننا نعلن مسؤوليتنا الكاملة عن أي مخاطر يتعرض لها وجود أو حياة «سين أو صاد» من قبل الجماهير، أو أي فرد سائب من الناس عقب خطابنا الذي سنلقيه.
ففي لحظة من التاريخ دخل رجل ضال، اقتنع بعمق أن الخليفة عثمان بن عفان رجل ضال، إلى دار عثمان. سمع راوياً كاذباً يقول له: سمعت عائشة تخطب حول الكعبة: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، وكانت تقصد عثمان. طعن الخليفة، ذا النورين، ست طعنات، ثم توقف وأخذ نفساً عميقاً: هذه لله. ثم زاد أربعاً: وهذه لحاجة في نفسي.
أرجوكم، توقفوا عن طعننا لله. فما كان لله فهو يصل إلى شركائكم. وما كان لشركائكم فلا يصل إلى الله.
وهذا واحدٌ من وجوه الحقيقة اللانهائية.
المصدر أونلاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق